في ذلك الصيف الذي لن يتكرر، قدرت سراييفو أن تسحبك إلى تاريخها القديم في تلك الأزمنة الموغلة في التاريخ العربي والإسلامي، والتي كنت تتمنى لو تعود إليها، ومعها، ورّاقاً يصرّ الحكمة ونور القراطيس أو حاجاً تنتقل بين تلك الأودية العميقة الجارية بالنعمة، وتلك السهوب اليانعة التي تلونها الشمس كجدائل من فرح وحرير، وتلك الجبال التي تعشق الأحصنة والرجال، وما يبشرون به من محفوظات الصدور، وطروس تلتحف مبطنات ما يلبسون، لا تدري لما بعض الأزمنة تتمنى لو كان لظلك متسع فيها، وحيز ليمر من خلالها؟
سراييفو في ذلك الصيف الذي لن يتكرر، كانت باعثة على الحب، وطهارة الخطو، وذائقة القراءة، كانت كرائحة زهر الرمان، كانت تُشتهى حد النزق وحد النزيف، وحد أن تعيدك فاتحاً ومبشراً بالخير، وساعياً لفتح بوابات الحياة، والألوان التي تسربها إلى النفس التقية والتوّاقة لكل شيء، كان يمكن أن تقلدك الإمامة بما حفظت وقرأت، وما خرّ من عينيك من دمع ادخرته لليالي التجلي والصوفية، وارتقاء بصفو الروح إلى سماوات من نور أو حين تستدرجك الذاكرة بما تتسع في آخر العمر نحو تتبع خطاك التي جاست المدن، وعلق بأرجلك من مسك ترابها.
في ذلك الصيف حاذيت مجرى نهر دارينا، ووقفت على جسره، وشاركت في صلاة الجنازة الغائبة الجامعة والشاهدة على موت الأحرار الذين ما زالت المدينة تبكيهم، وتبكي موتاها منذ الأزل، ومبتلية أن تبكي موتى قادمين سيفجعون المدينة بعد أعوام، تذكرت تلك الرواية الجميلة التي منحت مؤلفها «إيفو أندريتش» جائزة نوبل، «جسر على نهر دارينا»، وتذكرت متعة القراءات الأولى، وما تصحبها من دهشة، حين تجد ذاك الطَعم الحلو مذاقه في الفم، والذي تجلبه بعض الكتب، من دون سواها.
هذه المدينة التي تحتل قلب أوروبا، أسسها خسرو بك وشغل منصب واليها من 1521م حتى 1541م، وعكف على بنائها وتعميرها، حتى شغف بها وأوصى أن يدفن فيها داخل ساحة المسجد الذي يحمل اسمه، والذي يعد من أكبر وأجمل مساجدها، وبجانبه بنيت مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، و«خانقاه»، وهي مدرسة لدراسة التصوف، وفي المدينة القديمة، هناك برج الساعة الذي يعود للقرن السابع عشر، وفيه ساعتها القديمة التي ما زالت تعمل بالتوقيت القمري، وأرقامها عربية، وتعرف بـ «Little Ben».
سراييفو.. تشعرك أنها معدة للحرب، حرب فائتة، وحرب قادمة، وهي التي شهدت مقتل الأمير النمساوي «فرانسيس فرديناند» في 28 يونيو 1914م، حيث كانت شرارة الحرب العالمية الأولى، ولن تهدأ بعدها، فالحروب تدق بابها من حين إلى حين يجهل الناس.
سراييفو.. كان صيفاً لن ينسى، بتلك الحرب المجنونة حين يقلق العربي فجر مدينة عربية بأصوات مجنزراته وأرتال جنوده الذاهبين لمصيدة حرب لن يعودوا منها منتصرين، ولن يتكرر، لأنها رميت حبها على غشاوة عين صبي قلما ينسى، وتهزمه دائماً المدن المتربة، والمعفرة بروائح التاريخ والقراطيس الصفراء، وما يسطرون، فكيف وقد أدخلت إلى قلبي فرحاً جميلاً، وحباً لا أحب أن أبرأ منه، ولا أتبرأ!
كان لسراييفو الحب كله ذلك الصيف، لكنها سمحت أن توزع ما فاض من قلبك على العاصمة اليوغوسلافية آنذاك «بلغراد»، فهي ليست سهلة، وفيها الكثير، خاصة تلك الليلة التي كانت الضيفة والمضيفة فيها تلك المغنية التي غنت لنا، ثم غنت لعيد ميلادها، وبكت، ثم اصطحبتنا نجوب شوارع مدينتها ليلاً حتى بزغ فجرها، وقالت صباح الخير لشرفتها، ولذلك الفطور الشهي الذي كان توقيته الساعة السابعة بتوقيت بلغراد التي لم تنم ليلتها.