في حياتنا نفقد وجوهاً، حيث تتوارى لدواعٍ مختلفة، ولكن المكان يبقى المرآة التي تحفظ الود وتسرد الحكاية من أولها إلى آخرها، وكأن البدايات لم تزل في أوج أبجديتها، وهذا ما يجعل للذاكرة الخلود في الوجود، ويجعلنا نحن الذين نعشق الصور نتهجى ما بين السطور، ونقرأ التاريخ للذين لم يشهدوا ما حدث في الليلة البارحة، وما كان يهيم عشقاً في لون الأشجار المثمرة.
اليوم عندما تسير في الطريق وبين ثنايا الزمن، تجد نفسك تستدعي تلك المشاهد والوجوه كأنها في الواقع تطهو طعام المستقبل وتحيك قميص الوقت، وتلون ياقة الحلم بالأبيض الناصع، وتقلم وريقات السدرة في ذلك الفناء الرملي، وتراوغ العصافير بين الأغصان لعلها ترفع الصوت عالياً وتغرد باسم العشاق والذين خاطوا قماشة القصيدة الأولى بأهداب الشمس، والذين نثروا حبات القمح على التراب لعل فرخاً من تلك الصغار يهفو قلبه ويترك العش لينقر الحباب حبة، حبة، فتسمع أنت المتيم نبضات قلبه الغض، وتطرب لما يشاغب مهجتك، فتروم إلى الصعود نحو العلا لعل وعسى يأتيك شعاع من ضوء الشمس ويمنحك الرؤية لما بعد العتمة.
في حياتنا تبدو الأشياء مثل هلامية العناقيد فوق القمم الشم، فنحاول تسلق الأغصان منتمين إلى ناموس الطير في عليائه، منسجمين مع ذاتنا التي لا تنام ليلاً، ولا تستريح نهاراً، لأن الزمان يكشف لحافه عن تطلعات لا يخبو لها سر ولا تنطفئ لها نار، فكل الساعات هي جولة في وجدان المكان وكلها استقطاب لوجوه ما ملّ الفؤاد تقصي ملامحها الزاهية، هي تلك التي سكنت في بين الثنايا، وكبرت عصافيرها، وترعرعت بين الرموش كأنها الكحل في ريعان لدانته، وكأنها الدمعة في لحظة الشهقة الأولى، وكأنها الرفة في ساعة انزياح الحلم نحو اللحظة المباغتة.
في حياتنا وجوه فارقت وأخرى اختفت، وبعضها توارت خلف انشغالات ربما لدواعي العزلة، ولكن كيف للمعنى أن يمسح عن سبورة الذاكرة ما ترسخ وما غاص في الأعماق كأنه السر الدفين، فهذه هي معادلة الحياة كلعبة مزدوجة ما بين الملهاة وغزوة الأسى، هذه هي الحياة تجعلك في العمر كأنك القشة على ظهر موجة، تداعبك بل وتلاعبك وأنت في الحراك مجرد احتمال بقاء، مجرد فرصة ربما لا تثبت براءتها، فتمضي، ومعك يمضي القطار السريع، وعند محطة ما تشعر أنك نسيت حقيبة السفر، ومها نسيت الدفاتر والقلم الوحيد الذي ترسم من خلاله بعض ما تحفظها من وجوه، ومشاهد، وكذلك كلمات كانت في يوم من الأيام تفتح أمامك دروب الأمل.
في حياتنا نحن الكبار، أطفال تسكن بين الضلوع أفئدة أطفال لم يفطموا بعد، ولم تزل عيونهم تشع ببريق الفرح لمجرد رؤية عصفور يهبط على شريان القلب، فتتفتح الأغصان من جديد ومعها تسرج الحياة خيول الجموح المدهشة.